"
كونوا على الصلاة مواظبين، في الرجاء فرحين، وعلى خدمة الأخوة مبادرين"
زيارة العراق رغبة
دفينة في قلوبنا. الذهاب الى أرض ابراهيم، ارض الوعد الأول واللقاء الأول مع إله
الحب... أرض الانطلاقة الأولى لمسيرة إيمان آبائنا في العهد القديم.
وصلنا الى هناك
وأفكارنا مليئة بألف فكرة وفكرة... ماذا سنجد يا ترى في تلك الأرض التي تألّم
أهلها من ضربات الشرير... كيف سأجدُ الأرض التي ربيت فيها؟ التي شهدت طفولتي
وشبابي؟ يقول لسان حال الأخت نهى .
استقبلتنا في مطار
اربيل عائلة من قرابة الأخت نهى، نازحة الى عنكاوا بسبب الحرب واحتراق منزلها في
قره قوش.
بمحبة كبيرة
وبترحاب معروف عند أهل الكرم العراقيين، استقبلونا وفتحوا لنا قلوبهم وبيتهم.
ببساطة وعفوية
تقاسموا معنا القليل الذي يملكونه ولكن ما لمس قلبنا بالأكثر هو قصة معاناتهم مع
الألم والتهجير.
"إنّ الذهب
يُمحّص بالنار" والايمان العميق يُعرف عند التجربة.
لمسنا بقلب ملؤه
الاندهاش إيمان هذه العائلة التي صدمتنا من خلال كلامها وتعابيرها:
-
"لقد خسرنا كل شيء ولكن نشكر الرب الذي
غمر حياتنا بنعمته وحمانا بحنانه ونشكر أمنا الكنيسة التي ساندتنا على كل الصعد،
لا عجب فالكنيسة هي أم والأم تعتني بأطفالها". قالت بيداء
-
كالكثير من العائلات تألمنا، هُجّرنا ولكن
أيماننا كان عوناً لنا في الضيقات ولقد اختبرنا عناية الرب ومحبته في كلّ ما عشناه
من ألم. قال نبيل.
عند ساعات الصباح
الاولى، رافقنا نبيل بجولة في المنطقة زُرنا
فيها البيوت المفبركة (كارافانات) التي كان يستعملها النازحون العراقيون في منطقة
اربيل وعنكاوا.
كما أن الرب كان
يتنقّل بخيمة مع شعبه، هكذا رأينا مكان الكنيسة المتنقّلة حيث كان إخوتنا يحتفلون بالذبيحة
الالهية. " فما الذي يفصلنا عن محبة المسيح؟"
زرنا ايضاً المدرسة
والامكنة التي كانوا يعيشون فيها في الكارافانات.
وضعٌ لا يُحسدون
عليه ولكنهم إخوة يتساندون لعبور المحنة سوياً متأكدين أن الله لن يتركهم في
منفاهم لا بل سيقودهم الى المراعي الخصبة.
في الساعة العاشرة
صباحاً، تركنا عنكاوا الى قره قوش. طوال المسافة التي تفصل المنطقتين كان سائق
التاكسي، وهو من أبناء قره قوش، يفسّر لنا معالم الطريق ويدلّنا الى الخنادق التي
حفرها الارهابيون وأعوانهم، كما أرانا أكثر من مخيم يعيش فيه اللاجئون مسيحيين
ومسلمين.
وصلنا الى قره
قوش! البلدة التي نادراً تجد بيتاً فيها لم يعط ولداً من اولاده ليخدم الرب في
الكنيسة. اثنتين من أخواتنا الراهبات هنّ ثمرة ايمان تلك البلدة المعطاء. الأخت
نهى عبود والأخت رواء ايشو.
عانت كل من عائلتي
اخواتنا التهجير وويلات الحرب. عائلة الأخت نهى هاجرت قسراً الى فرنسا ولم يبق في
قره قوش الا الأخت الصغرى وعائلتها، أما عائلة الأخت رواء فقد احترق منزلها
وتهجّرت الى شمال العراق والآن يعيدون بناء البيت للعودة الى بلدتهم الحبيبة.
البلدة تتكلّم
لوحدها... لوسكتت الحناجر لتكلّمت الحجارة لتُخبر العالم بأسره عن مدى المعاناة التي
عاشتها... بيوت محروقة هجرها أهلها الى بلاد بعيدة، طرقات مليئة بالحفر، محلاّت
تنتظر من يملأها بالعمل والحياة من جديد...
بما أن الغلبة هي
للحياة والكلمة الأخيرة هي للقيامة، تجد أيضاً بيوتاً مرمّمة تتحدّى عواصف الموت
بجمال الوانها.
وصلنا الى البيت
الوالدي للأخت نهى حيث تسكن حالياً أختها مع عائلتها بسبب احتراق بيتها في الحرب
الارهابية. خمس سنوات مرّت لم تلتق فيها الأختين. ما من كلمات تعبّر عمّا يجيش في
القلب من مشاعر... بفرح ممزوج بالألم ضحكنا سوياً، أكلنا سوياً وأمضينا الليلة
الاولى تحت سماء قره قوش.
في الصباح توجّهنا
فوراً بعد القداس الالهي الى زيارة الأسقف مار يوحنا بطرس موشي- مطران السريان
الكاثوليك رئيس اساقفة الموصل وكركوك واقليم كردستان، وسلّمنا اليه رسالة الرئيسة الاقليمية، الأخت
لينا ابو نعوم. استقبلنا بمحبة أبوية وفتح لنا الأبواب أمام القيام برسالة مع كافة
الشرائح العمرية في الرعايا.
بقلب مليء بالرغبة
الرسولية، باشرنا فوراً بالتحرّك. بدايةً التقينا بالأب روني موميكا الذي رافقنا
بجولة الى السيمينير... العيون تدمع والقلب يحزن لدى رؤية ذلك البناء الجميل وقد
تعرّض للتخريب والتنكيل برموزه الدينية، واستُعمل كفندق للسبايا أثناء الحرب، بعد
أن كان يضمّ في حناياه تسبيح التلامذة الذين وهبوا حياتهم للرب. كما حرق أعداء
المعرفة المكتبة الثقافية والدينية التي كانت تُعدّ أكبر وأقدم مكتبة في بلاد ما
بين النهرين.
"مهما تعاظم
العنف لن نيأس وسيعود السيمينيرمن جديد، بفضل ايمان أبنائه ليكون منارة تشعّ مجد
الرب". يقول الأب روني
وضعنا في اليوم
نفسه، بمساعدة الأب روني ، برنامجاً رعوياً زاخراً بالعمل والنشاط والصلاة.
خلال اثنا عشر
يوماً :
التقينا بمجموعة
من النساء ينتمين الى منتدى المرأة في بخديدا، أمضينا أمسية روحية عن روحانيتنا
السالزيانية باقتضاب بالإضافة الى وقت ترفيهي وعشاء سوياً مع الجوقات التي تسبّح
الرب بالترانيم في خمس كنائس في بخديدا. التقينا مجموعة من الأطفال من سن الخامسة
وحتى سنّ الثانية عشرة حول موضوع " الصدق" . نظّمنا لقاء لعدد كبير من الشبيبة
حول شخصية دون بوسكو صديق الشباب وروحانيته. شاركنا بالقداديس والصلوات في مختلف
رعايا بخديدا. زرنا بعض العائلات وتشاركنا معهم الخبرة الايمانية واللقمة الهنيّة.
أصغينا للعديد من الأشخاص الذين عاملونا بمحبة وثقة وفتحوا قلوبهم وشاركونا
ألمهُم. زرنا عائلة الأخت رواء وتعلّمنا من بسمتهم ورجاءهم كيف يُطبّق الايمان في
الواقع المعاش مع كلّ مرارته.
أعتمدنا البسمة
كجواز مرور في رسالتنا. فكنا ننظر الى عيون إخوتنا محاولين أن نزرع البسمة في
داخلهم والأمل في غدهم.
ما اختبرناه قوي
جداً لدرجة أننا نحمل في داخلنا تلك الوجوه، تلك النظرات المتألّمة، ذاك الخوف من
الغد ومحاولة الاتّكال على الرب.
كانت كلمات إخوتنا
ترنّ كموسيقى في قلوبنا عندما يطلبون منّا العودة والقيام بالنشاطات معهم، لا بل
الكثير منهم طلب منّا أن نفتح بيتاً سالزيانياً في قره قوش... ننتظر أوان الرب
لنعود بقلب ملؤه الرجاء.
سمعنا مرات كثيرة
تلك الكلمات: الرب طيب وحنون وهو لن يتركنا... الرب هو الذي اعتنى وسيعتني بنا
والكنيسة أمنا لم تتركنا وساندتنا في وقت الشدّة... سنبدأ من جديد... يستطيع
الشرير أن يهدم المباني ولكنه لن يستطيع أبداً أن ينتزع حب الرب من قلوبنا،
إيماننا هو قوّتنا.
ودّعنا تلك الارض
وفي قلبنا غصّة، متأمّلين بالعودة في أسرع وقت ممكن... لأنه جميل جداً أن يسكن
الاخوة معاً... يسبّحون الرب ويمجّدوه بحياتهم.
ملح يعطي الطعم...
خميرة في قلب العجين... عمالقة في الايمان ومحبة الكنيسة... هؤلاء هم من التقينا
بهم في رسالتنا.
نشكر الرب على
ايمانكم إخوتنا الأحباء
0 التعليقات:
إرسال تعليق