
ما هي دعوتي؟ كيف أكتشفها وأميزها؟
أسئلة يطرحها الكثير من الشباب المؤمن بشأن خيارات تصوغ المستقبل وتحول الحاضر. هل من أجوبة على هذه الأسئلة؟ هل يمكننا كبشر أن نعرف إرادة الرب بشأن حياتنا؟
الدعوة هي نداء يوجهه الله للإنسان الذي اختاره لذاته، والذي يخصه لعمل معين في تدبيره الخلاصي وفي مصير شعبه. تبدأ الدعوة باختيار إلهي. وتنتهي بتنفيذ أمر إلهي.
فيسوع أراد أن يتضاعف حضوره في العالم، وأن تنشر رسالته بواسطة رجال يكونون مسحاء آخرين. وهؤلاء الرجال هم التلاميذ الذين اختارهم وأعطاهم السلطان ومن بعد ذلك أرسلهم ليقوموا بعمل الرسالة. إذاً غاية الدعوة ومعناها هو الإرسال. أي الرسالة، وعمل الرسالة.
بالإضافة إلى الاختيار والإرسال، هي نداء، هذا النداء هو نداء شخصي موجه إلى أعماق ضمير الإنسان. تقلب له أوضاع كيانه كلها. لا في ظروفه الخارجية فقط، ولكن حتى في عمق قلبه. فيجعل منه أي النداء شخصاً آخرويصبح هذا الإنسان المدعو أيضاً إنساناً مميزاً. "أنتم من العالم ولستم من العالم."
و يوجد العديد من الدعوات التي يعيشها الإنسان في حياته " كالدعوة الكهنونية و الرهبانية و الحياة المكرسة،و أيضأ كالزواج وتأسيس أسرة مسيحية صالحة. والعمل في حقل الرسالة ( التعليم الديني- الأخويات- الترتيل ...إلخ)، والعمل في مجالات الحياة الأخرى (الطب، التدريس...إلخ) ، فلكل إنسانٍ منا دعوته الخاصة به، والتي تلقّاها من الله مباشرة، ولكن بطريقة مختلفة عن الإنسان الآخر. هذه الدعوة موجهة إليه، ومخصصة له، من قبل أن يُخلق "قبل أن أصورك في البطن عرفتك وقبل أن تخرج من الرحم قدستك وجعلتك نبيا للأمم" (أرميا1/5). ولكن "عندما يبلغ ملء الزمان" (غلا4/4) حينئذٍ، يسمع المدعو صوت الرب الذي دعاه، ويلبي الدعوة التي دعي إليها "ها أنا واقف على الباب وأقرع، فمن سمع ..." (رؤيا يوحنا3/20).
والله عندما يختار أشخاصاً ويدعوهم، يقبلهم مع عيوبهم وخصائلهم، نقائصهم وفضائلهم، ميولهم ورغباتهم، زلاتهم ووثباتهم للخير. والتاريخ مليء من مثل هؤلاء الأشخاص الذين لبوا الدعوة الموجهة لهم وحاولوا جهدهم وسعوا لتحقيق أماني الله ومخططه الخلاصي على البشرية.
انطلق نحو ذاتك!
الإنسان بجوهره كائن يبحث عن ذاته: من أنا؟ لم أعيش؟ لماذا أنا أنا ولست آخرًا؟ ما هي الغاية من وجودي؟
في دعوة ابراهيم عندما وجه الله له دعوة للخروج: “انطلق” (تك 12، 1). الكلمة في العبرية “لِكْ لِكَ”
فلها معنين
المعني الأول: هو الترك المادي للأرض، العائلة، للعشيرة . فينطلق إبراهيم “مكانيًا”
المعنى الثاني هو: “انطلق نحو ذاتك”.لكْ لكَ”باللغة العبرية، “انطلق نحو نفسك”. إلى ذلك الرجل الذي يعيش نوعًا من لعنة شخصية، زوجية وجماعية بسبب العقر، يوجه الرب نداء الرجوع إلى الذات، الرجوع إلى حقيقته.
توقف إبراهيم في حياته الطويلة عند المعنى الأول، ولم يكشف المعنى الثاني إلا في مرحلة متقدمة من حياته الروحي وخاصة في تقدمته لابنه اسحق كذبيحة. كذلك توقف التلاميذ قبل القيامة عند المعنى الأول.. “ترك” كل شيء مادي واجتماعي واتباع المسيح، ولم يكتشفوا المعنى الثاني إلا بعد القيامة. و هكذا حال كثير من القديسين.
وقد قدم التقليدان العبري والمسيحي صفحات غنية حول معنى هذا الرجوع إلى الذات في المسيرة الروحية. فأندريه شوراكي، مثلاً، وهو مفكر عبري هام من القرن الماضي، يشير إلى “انطلق إلى ذاتك” آخر موجود في سفر نشيد الأناشيد (2، 13) حيث يقول النص: “قومي يا خَليلَتي، ياجَميلَتي، وهَلمُيِّ (لكِ لك)”. يعلق شوراكي على هذا النص هكذا: "قومي: على العروسة أن تستيقظ أن تنهض، لأن الحب سلب منها النوم. يجب أن تخرج من الهمود، من الكسل. والأمر مُطلق"
فالحياة الروحية تحتاج إلى قطبين لا يمكن الفصل بينهما: الله والنفس. لا يمكننا أن نلتقي بالله على هامش ذواتنا. بالنسبة للقديس اغسطينوس "انطلق نحو نفسك" تشيرإلى" نحو قلبك"«أدخلوا إلى قلوبكم! أين تريدون الذهاب بعيدًا عن ذواتكم؟ إذا ذهبتم بعيدًا ضعتم. لما تختارون سبلاً قاحلة؟ عودوا من ضياعكم الذي حملكم خارج السبيل القويم؛ عودوا إلى الرب. فهو حاضر دومًا. عد أولاً إلى قلبك، أنت الذي صرت غريبًا عن نفسك بسبب هيامك على وجهك دون وِجهة: لا تعرف ذاتك وتريد البحث عن ذاك الذي خلقك؟!»
بالنسبة للفلاسفة الأقدمين، “اعرف نفسك” يعني النظر في محدودية الوجود البشري وهشاشته. وهناك حكمة لا شك فيها في هذا الأمر. فمن يتعرف على حدوده يستطيع تجاوزها؛ من يعرف أنه لا يعرف، ينفتح على المعرفة. هذه هي مفارقات قوة الضعف والجهل الحكيم.
الكتاب المقدس أيضًا يحدثنا عن محدودية وفقر الكائن البشري. "الانسان مثل العشب ايامه. كزهر الحقل كذلك يزهر. لان ريحا تعبر عليه فلا يكون ولا يعرفه موضعه بعد" (مز 103، 15 – 16). حياة العشب قصيرة وضعيفة لأنه " بالغداة يزهر فيزول. عند المساء يجز فييبس" (مز 90، 6). ويُقارن ضعف الإنسان مرارًا بهشاشة العشب، فيهتف أشعيا مثلاً: “صوت قائل ناد. فقال: بماذا انادي؟ – كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل” (أش 40، 6؛ راجع يع 1، 10؛ 1 بط 1، 24).
إلا أن فقر الكائن البشري ليس الإطار الوحيد الذي نراه في الكتاب المقدس. فغنى النظرة الكتابية بشأن الإنسان تظهر بسعتها في قصتي الخلق في الفصلين الأول والثاني من سفر التكوين. فالإنسان نفسه المجبول “من تراب الأرض” (راجع تك 2، 7) هو مخلوق “على صورة الله” (راجع تك 1، 27). ويقول لنا كتاب الحكمة: “لقد خلق الله الإنسان لعدم الفساد، وجعله على صورة طبيعته” ( حك 2، 23؛ راجع سير 17، 3). ولهذا يندهش صاحب المزامير كيف أن الله، في هذا الكون الشاسع، يحمل في قلبه بشكل خاص الإنسان: “ما هو الإنسان حتى تذكره، وابن الإنسان لكي تعتني به؟”. فالإنسان أقل من إله بقليل وهو مكلل بالمجد والكرامة (راجع مز 8، 5 – 6).
هذا ويبين دو لوباك عظمة الإنسان مستشهدًا بنص قديم لإسحق ديلا ستيلا الذي يحث الإنسان بهذا الشكل: “ادخل إلى قلبك. ففي الخارج أنت مثل حيوان، على صورة العالم؛ لهذا يُعتبر الإنسان كونًا مصغرًا. أما في الداخل، أيها الإنسان، فأنت صورة الله، لهذا تستطيع أن تتأله”.
مجمل القول أن الإنسان قد خلق من الله لأجل المجد، لأجل مجد لا يزول، بل لأجل مجد ملكوت الله الأبدي (راجع مز 145، 12). خلق الإنسان لكي يكون شريكًا في حياة الله نفسه، في حياة حب الثالوث الأقدس. هذه الدعوة العظيمة كانت رفيقة أناشيد المسيحيين الأولين كما يذكرنا بولس الرسول: “لقد اختارنا الله في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم أمامه في المحبة” (أف 1، 4).
– فقبل أن نختار هذه أو تلك الدعوة، يجب أن نذكر أن دعوتنا الأولى هي هذه، وأن كل خياراتنا الحياتية يجب أن تسير نحو العيش بنعمة الحب هذه. فالله يدعونا ان نشترك معه في الحب و ان نتركه لكي يستخدمنا لتكون محبته في العالم :"أن الله يتنازل و يستخدمنا، يستخدمني و يستخدمك، كي نكون محبته و شفقته في العالم، رغم خطايانا، رغم بؤسنا و عيوبنا. الله يعتمد علينا ليحب العالم و يكشف له كم يحبه. إن بالغنا في الاهتمام بأنفسنا فلن يتبقى لنا وقت للآخرين." [من الارشاد الرسولي افرحوا و ابتهجوا]
"فلنخلق الإنسان"( تك1،26) دعوة من الله إلى الإنسان لكي يكون شريكه في خلق إنسانيته. فالله يطلب إلى الإنسان أن يُسهم في خلق الإنسان! الإنسان ليس مخلوقًا فحسب، بل يجب أن يُسهم في إكمال خلق ذاته ليصل إلى “مثال” الله ، من خلال أنسنة إنسانيته. الكائن البشري هو هبة ومَهَمَّة في آن. كخليقة خُلقَت حرة، لم يرد الله أن يُخلق الإنسان كمشروع قد تمّ، بل شاء أن يخلقه كخليقة حرة قادرة أن تختار الحب الذي خلقها.
هذا ويعتبر القديس مكسيموس المعترف أن الصورة هي “خير طبيعي”، بينما يعتبر المثال “خيرًا إراديًا”. ويلخص هنري دو لوباك، وهو بحاثة في مجال علم الآباء، التقليد المسيحي بهذا الشأن هكذا: “في الخليقة البشرية، الصورة هي الهبة التي نتلقاها بمجرد أننا موجودون. أما المثال الإلهي فيجب تحقيقه تحت عمل الروح القدس، باتكال تام على الجسد الفادي، من خلال الاقتداء بالمسيح، بواسطة الاتحاد بالمسيح، حيث يتم سر الوحدة مع الله. التوق الصوفي هو كامن في الطبيعة البشرية، لأن الإنسان خُلق لهذا الاتحاد”.
يحقق الإنسان إنسانيته عندما يتبع المسيح، ويعيش مقتديًا به . ففي المسيح خُلقنا وتم اختيارنا بشكل مسبق لكي نكون قديسين وأنقياء في الحب (راجع أف 1، 4؛ روم 8، 29). وبما أن الله محبة، “من يقيم في المحبة، يقيم في الله ويقيم الله فيه” (1 يو 4، 16).
إنطلق من أرضك!
بعد الوقفة الأولى حول “الانطلاق نحو الذات” فلنعد إلى النداء الذي يوجهه الله إلى أبرام متأملين بالمعنى الشائع الأول، أي معنى الخروج والدعوة إلى الخروج والانطلاق التي يوجهها له الله.
يبدو وكأن معنيي كلمة “اخرح” (لِك لِكا) هما متناقضان: فالمعنى الأول يدعونا للدخول إلى أعماقنا، بينما الثاني يدعونا للخروج، ولخروج جذري، إلا أن التناقض ظاهري فقط. فهو يُفسح المجال للمفارقة التي تشكل القيمة الحقيقية للأمور العميقة والسامية. الدخول إلى الذات ليس دعوة للغرق في ذواتنا، في أنانا وأنانيتنا. الدخول إلى الذات هو دعوة للدخول لكي نكتشف من هو أسمى منا، دعوة لاكتشاف الله الذي يسكن وجودنا بصمت وحب. وهذا الأمر هو مسيرة ضرورية للقاء ذلك الذي يدعونا في ذواتنا أبعد من ذواتنا. وقد أدرك القديس أغسطينوس معنى هذه المفارقة عندما أدرك أن الله “أعمق فينا من أعماقنا عينها” وهو في الوقت عينه، كغايتنا العليا “أسمى فينا من أسمى ما فينا!
يجيب إبراهيم على دعوة الله محققًا بالواقع ما هو كامن في عمق أعماقه: أن يكون أكبر من ذاته، وأن يحقق ذاته في العلاقة المطلقة مع المُطلق. ولذا، فدعوة الله إلى الخروج هي دعوة حب، هي بدء تحقيق جوهر الكيان.
التضحية التي يطلبها الرب من إبراهيم، على “الترك”، ترك الأرض، ترك العائلة، إلخ. ليس الترك بمعنى التخلي في سبيل التخلي، بل ما يعد به الرب، وهو أكبر بكثير وأعظم بكثير مما يتركه إبراهيم. يدعوه للتخلي لكي يوسع قلبه وحياته لتقبل ما هو أكبر وأعظم. إذا انفتح على خصب علاقة الثقة مع الرب يستطيع أن يختبر الخصب في حياته الزوجية. “وأنا أجعلك أمة كبيرة وأباركك وأعظم اسمك، وتكون بركة. وأبارك مباركيك، وألعن لاعنيك ويتبارك بك جميع عشائر الأرض” (تك 12، 2 – 3).
عندما يدعو الله الإنسان، يقدم له الوسائل والسبل لتحقيق هذه الدعوة. الله يهتم بالرغبات المقدسة التي يضعها في قلوبنا. لا تنقص التناقضات والمصاعب، وسيرة إبراهيم هي لخير دليل. ولكن الله أمين. هذا ما نتعلمه من وعد إبراهيم وتحقيقه.
يذكرنا الكتاب بأن دعوة الله هي للقداسة (1 تسا 4، 7) وللبركة (1 بط 3، 9) وهي لا تتألف من طهارة شرعية، بل بموهبة التحول تدريجيًا لكي نشبه أكثر فأكثر يسوع المسيح، وذلك من خلال التجدد على صورته (راجع روم 8، 29) ومن خلال “لبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله بالبر والقداسة” (أف 4، 23).
تمييز إرادة الله في حياتي
يعلمنا أندريه لوف، وهو راهب روحاني شهير من القسم الثاني من القرن الماضي، بأن إرادة الله بشأن الإنسان تنبع من حبه له. “رغبة” (thélema) الله بشأن الإنسان تنبع من إرادته المُحِبَّة التي يريد من خلالها خير الإنسان، ويريد أن يوصله إلى ملء حياته بشكل فريد لا يتكرر. هذه الفرادة تنبع من فرادة حب الله لكل إنسان. وعليه فليست المسألة مسألة إرادة الله بشأن الإنسان، بل إرادة الله لأجل الإنسان. والفرق كبير: فالله ليس بحاجة لأي شيء مني، أنا بحاجة إليه واختياره لي هو نعمة لي، لا خدمة له.
المشكلة الأساسية هي أن هناك غموض في كياننا بسبب انغلاقنا وقلة ثقتنا وهذه العناصر تعرقل مسيرة إيماننا. بسبب الشكوك التي تراودنا والتي يزرعها الشرير في أذهاننا، نجد صعوبة في التعرف على إرادة الله وفي الاعتراف بطيبتها وصلاحها في حياتنا. وهنا بالتحديد تمكن الصعوبة الأساسية في مسيرة التمييز الروحي. فالمسألة ليست متعلقة فقط في معرفة إرادة الله، بل أيضًا في أن نعترف بكل قناعتنا بأن هذه الإرادة هي خيرنا الأسمى، حتى عندما لا نراه ولا ندركه.
مسيرة التمييز الروحي تمر من خلال الصراع والاتزان الروحي اللذين يزيلان الأقنعة عن أوثاننا ويكشفان الستار عن رغباتنا الاصطناعية التي ليست وليدة قلوبنا بل وليدة تأثيرات خارجية. عمل التطهير هذا يحملنا إلى اكتشاف الرغبة الإلهية الكامنة في إنسانيتنا. واكتشاف هذه الرغبة الإلهية تطابق اكتشاف إرادة الله بشأننا، لأنهما الأمر عينه. ويعلمنا آباء الصحراء أن إحدى السبل لتحرير رغبتنا الحقة هو التخلي عن الإرادة الذاتية الأنانية.
مسيرة تمييز إرادة الله، إذاً، تبدأ بمرحلة تطهير إرادتنا ورغباتنا من العوائق والأشواك التي تخلّ بتمييزنا. هي مرحلة تشبه فترة خدمة يوحنا المعمدان الذي يعد السبيل للرب ويجعل سبله سوية (راجع مت 3، 3). هذه المرحلة هي أساسية في مسيرة القداسة لأنها تعيد لحمة الرباط بيننا وبين هويتنا العميقة.
يعلّم القديس اغناطيوس دي لويولا أنه يجب أن نصلي لكي نحصل على عدم الانحياز، وعندما نحصل على عدم الانحياز فما يميل إليه قلبنا بعد ذلك هو إرادة الرب. فإرادة الرب ليست الأصعب أو الأسهل من غيرها. إرادة الله هي الأكمل، هي السبيل الأمثل وسبيل الفرح الحق.
في تمييز إرادة الله في حياتنا لا بد أن نوقن انها تتطلب منا تضحيات حقيقية لكي نحققها، بالمقابل، في عمق أعماقها، إرادة الله لا يمكن إلا أن تتطابق مع نمونا الأمثل ومع سعادتنا الكاملة. وكذلك أيضًا فإن نمونا المتكامل لا يمكن إلا أن يتطابق مع إرادة الله بشأننا”. لا بل إن القديس بولس يعلمنا بأن الله بالذات هو “الذي يعمل فيكم الإرادة والعمل في سبيل رضاه” (فيل 2، 13).
بمعنى أن رغباتنا العميقة، تلك التي نشعر بأنها تمثلنا بأكمل وجه، هي مسنودة من الله وأننا، إذا ما تمكنّا من تحقيقها، فذلك لأننا مسنودين بنعمة وإرادة الرب. فبينما يملأنا العدو بأوهام لا يمكن تحقيقها بغية تشتيتنا عن التزاماتنا الآنية. إن الرغبات التي يلهمنا بها الرب، لا تشتت كياننا بل تجمعه، تجعلنا متجسدين بشكل أفضل، تحقق كياننا وواقعنا. عندما يقبل الإنسان دعوته العميقة، التي هي رغباته الأصيلة والأعمق، يشعر بقوة النعمة ويدرك أنه خارج هذا المحور الكامن في إرادة الرب لا محور آخر له.
في مسيرة التمييز، يشبه الإنسان بهلوانًا يسير على الحبل المشدود، يتقدم بفن متعلمًا أن يجعل وزنه يعمل لمصلحته، مستعينًا أيضًا بتوجه الريح، بتحرك أعضائه، بالحركة المعاكسة لعصا التوازن. و من خلال الممارسة والتمرس يتعلم أن يحصل على التوازن. هناك أمر أكيد: التقدم يساعد على الحصول وعلى الحفاظ على التوازن، بينما التسكع يجعل المرء يفقد التوازن.
يعلم القديس أنطونيوس الكبير أن هناك أشخاص أرهقوا أجسادهم بالتقشف ولكن، بما أنهم لم يكونوا يتحلوا بالتمييز، انتهى بهم الأمر بالابتعاد عن الله”. وهناك قصة شهيرة عن أب الرهبان إذ يقال أن صيادًا رأي الشيخ يمازح بعض الرهبان الشباب فتشكك. فقال له الأنبا: “ضع سهمًا في قوسك وشده”. ففعل كذلك. فأضاف: “شد أكثر”. ففعل. فقال: “أكثر، أكثر”. فأجب الصياد: “إذا شددته أكثر من اللازم انقطع”. وعندها أجابه الأنبا: “وهكذا الأمر في عمل الله. إذا أرهقنا الإخوة أكثر من اللازم، سرعان ما ينكسرون”. عندها فهم الصياد خطأه في الحكم ومضى وقد تعلم درس حكمة.
تعلّم التمييز يمر من خلال الاتزان. فبفضل الاتزان نستطيع أن نعيش حياة روحية متزنة وثابتة. فالإفراط يأتي من الشيطان، كما تذكرنا الأم سينكلتيكا: “هناك تقشف يلهمه العدو، لأنه تلاميذه يعيشونه. كيف يمكننا أن نمييز التقشف الإلهي من التقشف الشيطاني؟ الأمر واضح: من الاتزان والاعتدال. فنقص الاعتدال مضر دومًا”.
كيف أميز إرادة الله في واقعي؟
الفيلسوف المسيحي موريس بلوندِل يقدم في كتابه L’action بعض الأفكار الأساسية لتمييز إرادة الرب في حياتنا. يعلّم بلوندل أنه يمكننا أن نهيئ السبيل لسماع صوت الرب في حياتنا من خلال ثلاثة مواقف أساسية: تقشف الحاضر، التجرد الملتزم، الانتظار الواثق.
– تقشف الحاضر: يعني أن نعرف وأن نعترف بأن ما يمكننا فعله حقًا في حياتنا هو الاصغاء لصوت ضميرنا وتحقيق ما ندرك بصدق وإخلاص أنه واجبنا هنا والآن. فغالبًا ما نتيه براء تكهنات مرتبطة بالمستقبل القريب والبعيد متناسين أن مكان لقائنا بالرب هو هنا والآن. يدعو بلوندل في هذا الإطار إلى “العمل بحسب النور الذي نتمتع به الآن، دون أن نُغلق قلبنا على سخاء وسعة التوق الكامن فينا”.
يجب، بكلمات أخرى أن نعيش ما هو محدود بتوق لا محدود. أن نلتزم بالأمور الصغيرة بحبٍ كبير. يجب أن نعانق حاضرنا لكي نبني مستقبلنا. فحتى إذا ما أردنا أن نغير حاضرنا وواقعنا، لا بد لنا أن ننطلق منه.
و يوضح بابا فرنسيس في ارشاده الرسولي "افرحوا و ابتهجوا": «التمييز هو ضروريّ ليس فقط في الأوقات غير الاعتيادية، أو عندما نكون بحاجة لحلّ مشاكل كبيرة، أو حين يجب اتّخاذ قرار حاسم. إنه أداة نضال من أجل اتّباع الربّ بشكل أفضل. ويفيدنا على الدوام: كيما نستطيع أن ندرك أوقات الله ونعمته، كيما لا نهدر إلهام الربّ، وكيما لا نتخلّى عن دعوته لننمو. وغالبًا ما يظهر هذا في الأمور الصغيرة، في ما يبدو تافهًا، لأنّ الأناة تظهر في الأمور البسيطة واليوميّة. إنها مسألة عدم وضع حدود للعظمة وللأفضل وللأجمل، ولكن التركيز في الوقت عينه على ما هو صغير، على عمل اليوم. لذا، أطلب من جميع المسيحيّين ألّا يغفلوا عن القيام يوميّا، وهم في حوار مع الربّ الذي يحبّنا، بفحص ضميرٍ صادق. فالتمييز يقودنا في الوقت عينه، إلى إدراك الوسائل الملموسة التي يهيؤها الربّ، بتدبير محبّته السرّي، كيلا نتوقّف فقط عند النوايا الحسنة».
– التجرد الملتزم: عندما نقول تجرد، يُخمن البعض أنه يجب التخلي وعيش اللامبالاة نحو الواقع. لذا فكلمة “الملتزم” تُشكّل هذا التجرد. هو ليس تجرد التخلي، بل تجرد حرية القلب تجاه الواقع. ألتزم بواقعي كما هو، دون أن أُرضخ له رغباتي وأتواقي ومزاجي. يتحدث القديس اغناطيوس دي لويولا عن هذا النوع من التجرد بمثل صائب. فيقول أنه لكي نختار جيدًا يجب أن نكون مثل الميزان الذي لا تميل إبرته لا إلى اليمين ولا إلى اليسار، بل تقف عادلة لتقوم باختيار صائب.
– الانتظار الواثق: بعد أن نقوم بكل ما نرى ضميريًا أنه واجبنا، يجب أن نقف وقفة انتظار واثق نحو تدخل الرب. فالنعمة تأبى الأوتوماتيكية، النعمة نعمة مجانية تأتي من إرادة الله. وهنا بلوندل يتحدث بطريقة تشبه تعبيرًا قريبًا من فكر القديس اغناطيوس دي لويولا إذ يقول: “بعد أن نفعل كل شيء دون أن ننتظر شيئًا من الله، يجب أن ننتظر كل شيء من الله وكأننا لم نفعل شيئًا”. تذكرنا كلمات بلوندل بكلمات القديس اغناطيوس الذي استشهدنا به سابقًا والذي يقول: “يجب أن نصلي كما متكلين في كل شيء على الله، وأن نتصرف وكأن كل شيء يرتكز علينا”.بانتظارنا المنفتح، الذي ليس انتظارًا فارغًا، نعيش فضيلة الرجاء، وهي فضيلة لاهوتية، ونعترف أن الاتكال على الرب والتسليم له هو الفعل الديني الأسمى. فقداستنا ترتكز على حوار حب مع الرب وهذا الحوار ما هو إلا الصلاة.
___________________________________
المراجع :
· كيف اميز دعوتي – روبير شعيب من موقع زينت العالم من روما
· الدعوة و التكريس للأب جان حنا اليسوعي من موقع WWW.calam1.org.
· الارشاد الرسولي اِفَرحوا وابتَهِجوا لقداسة البابا فرنسيس حول الدعوة إلى القداسة في العالم المعاصر

0 التعليقات:
إرسال تعليق