سالزيان دون بوسكو
(أو جمعية القديس فرنسيس السالسي)
في 31 كانون الثاني 1888، توفّي في مدينة تورينو بإيطاليا الشمالية، كاهن جليل يناهز الثالثة والسبعين من عمره، قضى 46 منه في خدمة الشبيبة، يُدعَى يوحنا بوسكو، المعروف بـ "دون بوسكو".
كان قد نال شهرة تجاوزت حدود إيطاليا وانتشرت بانتشار أبنائه من رهبان وراهبات، البالغ عددهم آنذاك ما يقارب الـ 1500، في عدّة دول في أوروبا وأمريكا الجنوبية.
وسنة 1934، أي 46 عامًا بعد وفاته، أعلنه البابا بيوس الحادي عشر قديسًا، حينما بلغ عدد الرهبان وحدهم ما يزيد على 10000 راهب.
أما اليوم، عند مرور مئة عام بعد وفاة المؤسّس، فعدد السالزيان تقريب 15000 راهبًا، منتشرون في 130 دولة.
إن دلّت الأرقام على شيء فإنما تدلّ على سرعة انتشار الرهبنة السالسية وتأقلمها في أنحاء العالم كافة وفي البلدان النامية بوجه خاصّ، مما جعل البابا بولس السادس يتحدّث متعجبًا عن "الظاهرة السالسية" في الكنيسة، بينما اشترك البابا يوحنا بولس الثاني في الاحتفالات الجارية بمناسبة اليوبيل المئوي لوفاة دون بوسكو بمبادرات فريدة هي:
إعلان "سنة نعمة" للشبيبة، أي يوبيل خاص يمتد من 31/1/1988 إلى 31/1/1989،
نشر رسالة بابوية مميزة في "دون بوسكو المربي، أبي الشبيبة"،
توجّهه إلى مدينة تورينو وجوارها مدة ثلاثة أيام لزيارة الأماكن التي عاش فيها القديس.
أما الرهبنة نفسها فقد اتّخذت على عاتقها، كما قال رئيسها العام، أن تكون "هذه الذكرى المئوية نداء إلى إعادة اكتشاف روح دون بوسكو وتجسيمه بحماس وإيمان، لكونه منفتحًا على المستقبل، وذلك على ضوء توجيهات المجمع الفاتيكاني الثاني وتطلّعاته ... لنبرهن على أن دون بوسكو لا يزال حيًّا بعد مرور مئة سنة على وفاته".
نشأة الجمعية السالسية
كان دون بوسكو ينظر إلى رسالته التي بدأت منذ صغره بدعوة إلهية خاصة وعبّر مرارًا عن قناعته هذه في أواخر حياته، ذاكرًا المراحل التي مرّ بها والمشقّات التي عانها لتحقيق ما كان الله يدعوه إليه. فمن خلال إصغائه المتواصل لإلهامات الروح ووعيه علامات الأزمنة ومتطلّبات الشبيبة، توصل إلى بناء صرح متلاحم، متعدّد الأطراف والأشكال، لا يزال يثير الإعجاب حتى أيامنا هذه.
ذات يوم من صيف 1757 استقبل الوزير راتاتسي دون بوسكو فدار الحديث بينهما على مشروع "المصلّيات"، أي مؤسّسات دون بوسكو للصبية المشرّدين، والوسائل الكفيلة لاستمراره، فقال الوزير: "في رأي، يجب عليك اختيار بعض العلمانيين ورجال الإكليروس الذين تثق بهم، فتؤلّف جمعية وتدخل إليهم روحك وتبثّ فيهم نظامك، فيكون في الحاضر معاونيك وفي المستقبل تابعيك".
ابتسم دون بوسكو لهذه النصيحة الصادرة عن وزير كان مسؤولاً عن قانون يقضي بإلغاء عدد كبير من الجماعات الرهبانية، ولكن الوزير نفسه طمأنه قائلاً: "إني أعرف قانون الإلغاء معرفة حسنة، فيمكنك إذًا إنشاء جمعية لا يقوى أي قانون على إلغائها"، مما استرعى تمامًا انتباه دون بوسكو.
حينئذ أدرك أنه يستطيع أن إنشاء جمعية لا تكون عند الدولة سوى "مجموعة مواطنين يتّحدون ويعيشون معًا لغاية الإحسان". شكر الوزير ومع مرور الأيام تبلورت الفكرة التي كانت تجول في خاطره منذ أعوام وهي إنشاء جمعية رهبانية "في نظر الكنيسة"، يكون أعضائها مواطيون "بالنسبة إلى الدولة". أما الصعوبة الكبرى التي اعترضته فهي: أيرضى الكرسي الرسولي بهذه الصيغة التي تُحدث ثورة في الأشكال التقليدية لتنظيم الحياة الرهبانية أم يرفضها؟
منذ رسامته الكهنوتية عام 1841 وبموافقة رئيس أساقفة تورينو، كان دون بوسكو يمارس نشاطًا رعويًّا من نوع خاص، يهدف إلى جمع وتنشئة الشبان المشرّدين، يعاونه في ذلك عدد من الكهنة والعلمانيين، وكان الكهنة يؤلّفون معه جماعة يرئسها دون بوسكو نفسه ويُشرف عليها الأسقف.
بدأ دون بوسكو يهتمّ بتنشئة بعض التلاميذ بوجه خاص، حتى اقترح عليهم في أحد الأيام أن يبقوا معه، بدون أن يدعوهم
صراحة أن يصبحوا "رهبانًا "، وسبب ذلك أن رئيس أساقفة تورينو كان يشجّعه من ناحية على إنشاء جمعية كهنة يخدمون الأبرشية ويخضعون لراعيها، بينما كان دون بوسكو، من ناحية ثانية، يعي صعوبة إنشاء جمعية رهبانية حقيقية نظرًا لقلّة التقدير الذي كان يتمتّع به الرهبان في تلك الأيام. وهكذا كان التعلّق بشخصه والاقتناع بأنّه رجل الله من أقوى العوامل التي شجّعت بعض تلاميذه على البقاء معه، فلم يتردّد أحدهم، وهو جوفاني كالييرو الذي أصبح فيما بعد أوّل أسقف وأوّل كاردينال سالسي، أن يقول "سواء كنتُ راهبًا أم غير راهب، فإني سأبقى مع دون بوسكو".
حتى سنة 1859 لم يكن شيء يؤهّل دون بوسكو إلى أن يُعلن نفسه "رئيس رهبنة"، ولم تظهر في جماعته معالم رهبانية واضحة، غير أن هناك ما يشير إلى أن نواة جمعيته الرهبانية قد تشكّلت وحجر أساسها قد وُضِع. منذ بضع سنوات 1854 كان عدد الإكليريكيين اللذين ألبسهم الثوب الكهنوتي، يجتمعون معه في لقاءات متواترة وصفها ميخائيل روا كما يلي: "اجتمعنا عند دون بوسكو ... عرض علينا أن نقوم بمحاولة نتمرّن فيها على عمل محبة للقريب بعون من الربّ والقديس فرنسيس السالسي. وسنُبرز وعدًا فيما بعد، ثم نذرًا للرب إذا أمكننا. على اللذين يقومون بتلك المحاولة وعلى اللذين سيقومون بها في المستقبل يُطلق اسم السالسيين".
في تلك الأثناء توجّه دون بوسكو إلى روما للتشاور مع البابا بيوس التاسع وتلقّى منه تأييدًا وتشجيعًا، بل أغناه البابا بنصائح ثمينة لتحديد صيغة الرهبانية الجديدة ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
ألا يرتبط أعضائها بوعود بسيطة فقط، بل بنذور رهبانية حقيقية؛
تفضيل اسم "جمعية" على اسم "رهبانية"؛
أن تكون القوانين مرنة، يسهل العمل بها؛
عدم فرض ثوب رهباني خاص؛
أن يكون كل من الأعضاء راهبًا حقيقيًّا في نظر الكنيسة ومواطنًا يتمتّع بحقوقه المدنية في نظر الدولة.
لما رأى دون بوسكو أن البابا والوزير العلماني راتاتسي على وفاق، قدّم لقداسته النصّ المختصر للقوانين. لا شيء فيها رهباني تقليدي، بل يدور الكلام على جمعية لرجال الإكليروس والعلمانيين يُبرزون النذور ويرغبون في تكريس حياتهم لخير الشبيبة الفقيرة بدون أن يفقدوا حقوقهم المدنية، لأنهم يحتفظون بملكية ما عندهم حتى بعد إبراز النذور. أمّا في نظر الكنيسة فهم رهبان، لأنهم يمتنعون عن إدارة أموالهم الخاصة ويخضعون لرئيس ويعيشون في جماعة.
فهكذا كان دون بوسكو سباقًا في اختيار صيغة رهبانية جديدة، أصبحت فيما بعد الصيغة المألوفة للرهبنات الحديثة.
انطلاقًا من التأييد البابوي، في 9 كانون الأول 1859 تكلّم دون بوسكو صراحة إلى السالسيين المجتمعين حوله، وجاء كلامه على النحو الآتي: "فكّرتُ منذ مدة طويلة في إنشاء رهبانية، فهذا هو الوقت للانتقال من الكلام إلى العمل. إن الأب الأقدس بيوس التاسع شجّع مشروعه وباركه. لم تُبصر الرهبانية النور هذا اليوم، فقد كانت قائمة في مجموعة القوانين التي عملتم بها دائمًا عملاً تقليديًّا... والآن يجب السير إلى الأمام وإنشاء الرهبانية رسميًّا وتقبّل قوانينها. ولكن اعلموا أنه لن ينتسب إليها سوى اللذين يريدون، بعد ما يفكّرون بجد أن ينذروا في الوقت المحدد نذور الفقر والعفة والطاعة... أترك لكم أسبوعًا لتفكّروا في الأمر".
فازت الرغبة في البقاء مع دون بوسكو بموافقة الأكثرية وفي مساء 18 كانون الأول 1859 عُقدت "جلسة الانتساب" ولم يغب عنها سوى اثنين من التسعة عشر اللذين حضروا الاجتماع السابق. كان معظمهم في العشرين من عمرهم.
حرر محضر الجلسة واعتبر حقًّا الوثيقة الرسمية الأولى للجمعية السالزيانية الناشئة.
بهذه الخطوة الجريئة قطع دون بوسكو شوطًا كبيرًا، إلا أن صعوبات خارجية بدأت تعرقل حسن سير حياة الجمعية، كما بدأت التساؤلات تُطرح من عدّة جوانب: هل ينتسب تلاميذ دون بوسكو من الإكليريكيين إلى الأبرشية أم إلى الجمعية السالسية؟ كيف يوفّقون بين دروسهم الفلسفية واللاهوتية وأعمالهم الرسولية الموكلة إليهم في مؤسّسات دون بوسكو؟ كيف يتجاسر دون بوسكو ويسجّل بعضهم في جامعة الدولة للحصول على الشهادات الرسمية في حين تضطهد الدولة الكنيسة؟
من الناحية القانونية كانت الأمور لا تزال عالقة، إذ لم يحصل دون بوسكو على موافقة راعي الأبرشية لمعارضة مستشاريه له. فبقيت الجمعية خاصة لبضع سنوات مع أن عدد أعضائها الإكليريكيين زاد باستمرار، لا بل انضم إليهم عدد من العلمانيين أيضًا فسُّموا "الإخوة المساعدين"، لا فرق بينهم وين إخوتهم الشمامسة أو الكهنة إلا فيما يختصّ بالخدمة الكهنوتية في حياة الرهبانية.
أما مسيرة الموافقة النهائية للقوانين السالسية، فهي تتزامن مع تطوّر الجمعية المستمر، بالرغم من العراقيل العديدة. ومنذ
مشروع القوانين الأول سنة 1855 حتى الموافقة النهائية سنة 1874، عاش دون بوسكو عشرين عامًا من العناء والقلق.
هناك أبحاث طويلة ودقيقة، يليها تحرير المسودّة، ثم مراجعة السلطات الكنسية المختصة وتعديل النص وفقًا لمتطلّباتها، بالإضافة إلى المعارضة الشديدة التي واكبت المشروع حتى النهاية. كانت نقطة الخلاف الرئيسية قضية العصمة الرعوية من ولاية الأسقف، إذ كان دون بوسكو يعي تمامًا أن تطوُّر وانتشار جمعيته متعلّقان، لا محالة، بالحرّية الذاتية التي سوف يتمتّع بها.
فأخيرًا، في 13 نيسان 1874، بتدخّل شخصي من قبل البابا بيوس التاسع، وافق مجمع الأساقفة والرهبان على القوانين السالسية بعد أن أُدخلت عليها تعديلات كثيرة، تخصّ أهمّها شكل إدارة الجمعية وعلاقات أعضائها بالسلطات الكنسية وميزات حياة السالسيين الرهبانية وتنشئتهم.
الطابع المميز للجمعية السالزيانية
"كانت هذه الجمعية في بدئها مجرّد تعليم مسيحي". هكذا عبّر دون بوسكو لاحقًا عن نشأة رسالته، متذكرًا لقاءه الأوّل مع صبي مشرّد في تورينو في 8 كانون الأول 1841 تحوّل إلى نقطة انطلاق مشروعه. استقبله مبتسمًا، اهتمّ بأمره، علّمه إشارة الصليب و"السلام عليك يا مريم" وودّعه قائلاً: "أودّ أن تأتي في الأسبوع القادم ولكن... مع أصدقائك". فكان ذلك الفتى أوّل سفير لدون بوسكو بين رفاقه العمال الأحداث وأصبح هؤلاء "رعيته" الخاصة، إذ عُني بهم "في الحال" وبكل اندفاع، مستجيبًا لمتطلّباتهم.
والعبارة "في الحال" تشير إلى التدخّل السريع الذي تميّز به دون بوسكو، إذ جعل الضرورة حافزًا على العمل الفوري... لأن الصبيان الفقراء والمحتاجين لا يستطيعون انتظار الإصلاحات الاجتماعية.
انطلاقًا من هذا المبدأ الأساسي، أعطى دون بوسكو الأحداث التعليم الديني والخبز والتدريب المهني وانتظر أن يعدّ غيره الخطط الإصلاحية المتكاملة. ولما بدأ يفكّر جديًّا بمستقبل مشروعه وبتأسيس جمعية رهبانية، لم يحدّد غايتها إلا بهذه الكلمات البسيطة: "العمل في سبيل الشبيبة الفقيرة المهملة المعرّضة للخطر".
وبما أن حاجات الأحداث وظروف حياتهم تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، أدرك أن جوابه لا بدّ من أن يكون شاملاً ومتنوعًا في آن، يتكيّف مع شتى الحالات. بدأ بمشروع المصلّى في أيام الأحد، ثم أضاف إليه تدريجيًّا بيتاً لليتامى ومدرسة مهنية ومدرسة أكاديمية والمعاهد المنظّمة. ولم يتردّد أخيرًا من أن يفكّر عالميًّا، فأرسل بالتالي أبنائه إلى البلدان البعيدة ليقوموا بكل ما يؤول إلى خير الشبيبة.
سارت الجمعية السالسية على خطى مؤسّسها ليس فقط بكل ما يتعلّق بعلاج مشاكل الشبيبة، بل في مجالات أخرى كان دون بوسكو رائدًا فيها.
تحدّد قوانين الرهبانية رسالتها الحالية على النحو التالي: "بأمانتنا للالتزامات التي أورثنا إياها دون بوسكو، نكون مبشري الشبان ولاسيما أفقرهم ونُعنى بالدعوات الرسولية عناية خاصة وننمي الإيمان في الأوساط الشعبية، خاصة من خلال وسائل الإعلام، ونبشّر بالإنجيل الشعوب اللذين يجهلونه" (المادة 6).
أما أنواع النشاطات والمشاريع فتفصّلها القوانين كالآتي:
المصليات (المراكز السالزيانية)، المراكز للشبيبة، المدارس على أنواعها ولاسيما المهنية، البيوت للاهتمام بالحالات الاجتماعية الخاصة؛
الرعايا والإرساليات؛
المراكز التربوية وللتنشئة الروحية؛
وسائل الإعلام على أنواعها: دور النشر للكتب والمجلات والنشرات الدينية والتربوية والترفيهية، إنتاج الوسائل السمعية البصرية كافة، محطات الإرسال (راديو، تلفزيون) (المادة 42-43). تخضع هذه النشاطات والمشاريع لمقاييس معيّنة، تنبثق مباشرة من اختبار دون بوسكو وخياراته الأساسية، وهي:
- تحقيق هدف تربوي ورعوي في آن؛
- الإصغاء إلى حاجات البيئة والكنيسة من خلال إدراك علامات الأزمنة؛
- روح المبادرة والمرونة؛
- التأقلم مع عالم الشبيبة، مع الحفاظ على حضور تربوي مميز بينهم.
الروحانية السالزيانية
كتب مؤخرًا البابا يوحنا بولس الثاني بمناسبة مرور مئة عام على وفاة دون بوسكو ما يلي: "إنه صاحب روحانية عميقة جعلت موقعه كقديس مميزًا بين كبار مؤسسي الرهبنات في الكنيسة، إذ تفوق في جوانب عدة. فهو مبتكر مدرسة روحية رسولية جديدة وجذابة، وهو محرّك إكرام خاص لمريم العذراء، أم المعونة وأمّ الكنيسة، وهو شاهد صادق وجريء على شعور كنسي أصيل، (...) ورسول واقعي وعملي (...)".ثم يستطرد قائلاً: "يسرّني أن أرى في دون بوسكو حقّق خصوصًا قداسته الشخصية من خلال التزامه التربوي المتحمس وقلبه الرسولي. فطرح القداسة في الوقت ذاته هدفًا لأسلوبه التربوي وبدقة، فإن التفاعل بين "القداسة" و"التربية" هو أبرز مميّزات شخصيته. إنه المربي "القديس" الذي استوحى من فرنسيس السالسي "القديس" نموذجًا اقتدى بقداسته، وهو تلميذ لمرشد روحي "قديس" هو الأب جوزيف كافاسّو، ومن بين تلاميذه نشأ تلميذ "قديس" هو دومنيك سافيو".[11]
1 ) الشعار: في كلمات البابا السامية موجز لروحانية دون بوسكو وبالتالي لروحانية أبنائه السالزيان ويعبّر عنها
الشعار "أعطني النفوس وخذ الباقي". تنبثق هذه الروحانية من التعطّش إلى خلاص الأحداث بوجه خاص، من خلال الإقتداء بالمسيح الراعي الصالح الذي يعرف خرافه ويبذل نفسه في سبيلها، كما فعل القديس فرنسيس السالسي، شفيع الرهبانية، وهو قدوة في المحبة والغيرة الرسولية والبذل بالذات.
كما أن يسوع المسيح علامة حب الآب للبشر وأداة خلاصهم، كذلك أراد دون بوسكو أن تكتشف الشبيبة مدى محبة الله من خلال خدمته الشاملة المتواصلة. لذا تجاسر يومًا فقال: "لقد عاهدتُ الله أن أقدّم حياتي، حتى رمقي الأخير، في سبيل شبيبتي المعوزين".
2 ) الأسلوب التربوي: لتحقيق رسالته واستنادًا إلى خبرته الواسعة الطويلة مع الأحداث، وضع دون بوسكو أسلوبًا تربويًّا سمّاه "الأسلوب الوقائي" وهو قائم على العقل والدين والمودة.
التربية، في نظره، تدعو المربي إلى سلوك موقف خاص واتّباع سلسلة من الإجراءات المستندة إلى قناعات عقلية وإيمانية تسيّر عمله التربوي. وبما أن ممارسة الأسلوب الوقائي تتمحور حول "المحبة الرعوية"، اعتبرها دون بوسكو ممارسة روحانية حقيقية، وذلك لأن "المحبة الرعوية" عطاء مجاني، يستوحي من محبة الله الذي يقي الخليقة بعنايته ويهديها ويشجعها بحضوره ويخلّصها ببذل حياته.
فعلى مثال دون بوسكو، يتقدّس الراهب السالسي من خلال ممارساته التربوية.
3 ) العمل: إن أساس كل روحانية الاختبار الحياتي لله. فهذا الاختبار لا ينحصر في أوقات التأمّل والصلاة أو في الحياة الباطنية فحسب، بل يشمل جميع ظروف الحياة.
وكما أن دون بوسكو اختبر وجود الله ومحبته وهو بين الشبان، كذلك يلتقي الراهب السالسي بالله وهو يشارك حياة الأحداث وألعابهم ويؤهّلهم إلى المعارف والمهن.
لذلك شدّد دون بوسكو على أن العمل محرّك قوي لتنمية الشخصية وحافز على الابتكار والمبادرة. وعلى كونه رسولاً ورجل عمل معًا، تمشّى مع متطلّبات العصر، وأدرك أهمّية العمل كوسيلة تربوية لا بديل لها. ورأى فيه مشاركة الله الخالق والاقتداء بالمسيح العامل، وبالتالي مصدر كرامة الإنسان الحقيقية.
قناعته راسخة بأن الكلام لا يقنع إلا عندما يتحوّل إلى عمل. فبمبادراته الجريئة ومشاريعه المتعدّدة أدهش معاصريه وأراد أن يتبعه تلاميذه بتفرّغهم للعمل الدؤوب، بل شاء أن يكونوا "مشمّرين عن سواعدهم".
إن نداء دون بوسكو إلى العمل له وقع عميق حتى اليوم، بل اليوم أكثر من الأمس. ولقد نوّه بأهمية ذلك الرئيس العام للسالزيان حيث قال: "نحن في مطلع عهد ثقافة جديدة تنبثق من حضارة العمل. هذا هو وقت التقنية والصناعة، حيث يحتلّ العمل المكان الأساسي. والحالة هذه، نحن نريد أن نعبّر من خلال عملنا عن تطلّعاتنا التنبئة وليس فقط عن كوننا رهبانًا زُهّادًا ".
فالعمل الدؤوب للراهب السالسي، المشفوع بروحانية عميقة، ليس إلا شهادة تكريسه لقضية ملكوت الله ومشاركة المسيح في عمل الخلاص.
4) الصلاة: إذا كان العمل الرسولي أبرز معالم الدعوة السالسية، فلا يعني ذلك أن الصلاة تقلّ أهمية عنه. كان دون بوسكو رجل الصلاة الحقّ رغم عمله المتواصل المضني، فصلاته صلاة الرسول المربي وهذا هو النموذج تركه لرهبانه، كما تصفه القوانين السالسية: "إن دون بوسكو، بخضوعه للروح القدس، عاش اختبار صلاة خاشعة، واثقة، رسولية، تجمع عفويًّا بين الدعاء والحياة. نتعلّم منه أن نكتشف مفعول النعمة في حياة الشباب: نصلي لأجلهم لكي يتحقّق في كل واحد منهم تدبير الآب، ونصلّي معهم لنشهد بإيماننا ونشاركهم عمل الخلاص. الصلاة السالسية فرحة ومبتكرة، بسيطة وعميقة، منفتحة على المشاركة الجماعية، تنبثق من الحياة وتمتد إليها" (المادة 86).
ويجدر بالذكر أن هذه الصلاة، وإن تنوّعت شكلاً وتعبيًرً، لا تستغني أبدًا عن أحد قطبي الحياة السالسية الأساسيين وهما: الربّ الذي يختار ويدعو إلى مشاركته في تتميم الخلاص من ناحية، والشبان الذين يُحمل إليهم الخلاص من ناحية أخرى.
تتميّز صلاة السالزيان بتركيزها على تأمّل كلمة الله وسرّي القربان والتوبة وإكرام العذراء مريم أمّ المعونة، وهي مثال تكريس الذات الكامل للرب ولخدمة الأخوة.
مهما طال الحديث والنقاش حول أولوية التكريس على الرسالة وأولوية التأمّل على العمل أو العكس، يبقى أن العمل والصلاة، العمل والتأمّل يعبّران عن محبة واحدة متماسكة يقيمها الروح القدس في نفس الرسول، حيث العمل الدؤوب والروحانية العميقة يلتقيان ويثمران ثمار القداسة. هذا هو التكريس السالسي أي التكريس الرهباني من خلال ممارسة الرسالة التربوية.
السالزيان في الشرق الأوسط
نشأتها في الأراضي المقدسة
في 26 أيار 1886 كان المجلس الإداري للجمعية السالسية يعقد جلسة في تورينو برئاسة دون بوسكو، حينما بدأ القديس يتحدّث عن مشروع كان يصبو إليه منذ بعض الوقت وهو إرسال أبنائه إلى إفريقيا. وها هو الآن يتسلّم اقتراحًا لفتح مدرسة في القاهرة لأجل أولاد الجالية الإيطالية في مصر. وكان الاقتراح صادرًا من وزير الخارجية الإيطالية، يؤيّده القاصد الرسولي والنائب الرسولي في مصر.
شعر دون بوسكو بأن حُلمه كاد يتحقّق وخاطب أعضاء المجلس بهذه الكلمات: "لي رغبة في الموافقة وسأبعث إلى القاهرة بعض الرهبان حالما أستطيع. أما الآن فسأرسل إلى القاهرة واحدًا منا ليرى عن كثب ويقوم بالإجراءات اللازمة. سنحاول أن يكون الانطلاق قريبًا... أقول لكم صراحة بأن هذه الرسالة هي إحدى مشاريعي وحُلم من أحلامي. فلو كنتُ شابًّا لأخذتُ معي دون روا وقلتُ له: "تعال نذهب إلى رأس الرجاء الصالح أو إلى الخرطوم أو إلى البحر الأحمر... حيث نؤسّس بيتًا للمبتدئين، لأن الهواء هناك جيد".
كان يبدو أن الوقت قد حان لتسير الأمور على خير ما يرام وتتحقّق بسرعة، إلا أن إقالة الوزير من الحكومة أدّى إلى تعطيل المشروع.
لم تكن هذه المحاولة الأولى للانفتاح على الشرق الأوسط، فمنذ سنة 1875 كان قد توجّه إلى دون بوسكو أحد كهنة البطريركية اللاتينية في أورشليم، هو الأب أنطون بلّوني، الإيطالي المولد، طالبًا منه أن يرسل أبناءه إلى الأرض المقدسة.
كان هذا الكاهن الغيّور قد أنشأ ميتمًا ومدرسة مهنية في بيت لحم وكان يخطّط لفتح مراكز مماثلة أخرى. ثم للعناية بهذه المشاريع، أسّس "جمعية العائلة المقدسة" المؤلّفة من كهنة وإخوة والخاضعة لولاية البطريرك اللاتيني الأورشليمي، غير أنها لم تزدهر كما تمنّاها الأب بلّوني.
لذلك بدأ يفكّر كيف يضمن مستقبل مؤسّساته. فعلم ما يقوم به دون بوسكو في إيطاليا ورأى فيه منفذًا ومؤازرًا. ولكن دون بوسكو رفض أول الأمر لقلّة عدد رهبانه وكثرة مشاريعه. ثم، عندما عاد إليه الأب بلّوني سنة 1887، وعده بقبول طلبه في المستقبل.
وبالواقع تم الاتفاق عام 1890،أي سنتان بعد وفاة دون بوسكو، فأبلغ الأب بلّوني المحسنين إليه بهذه الكلمات: "تعلمون أني، بعد تثبيت الكرسي الرسولي وغبطة بطريركنا الجزيل الشرف، تمكنتُ من استدعاء أولاد دون بوسكو الغيور لمؤازرتي وذلك لأضمن مشروعي من طوارئ المستقبل ومنحتُهم حق الخلافة في كل مشاريعي. وقد رضي الأب روا، رئيس جمعية السالسيين العام، أن يبقى جميع المشتغلين من كهنة وإخوة وبنات مريم على الحالة الحاضرة الآن فيحفظ مشروعنا اسمه ونوع تدبيره ويقصد الآباء السالسيون مساعدتنا ومؤازرتنا لا غير. وبعد أن رفعنا صلوات حارة إلى الرب عزّ وتعالى وبعد التبصّر والتأمّل بالاشتراك مع أشهر إخوتي، عزمتُ على الاتحاد بجمعية السالسيين، لأني أرى العائلة الصغيرة (أي رهبنة العائلة المقدسة) مع جزيل رغبتها واهتمامها، قاصرة، دون معاونة، عن تدبير شؤون المشروع".
في 6 حزيران 1891 ركب الأب بلّوني البحر من مرسيليا بصحبة ثلاثة سالسيين يقودهم الأب جوليو بربيريس ووصلوا إلى يافا في 15 حزيران. ذاع الخبر في بيت لحم فقصد وجهاء البلدة وشيوخها لملاقاتهم، ثم قدم تلاميذ الميتم الثلاثمائة إلى دير مار الياس، بين القدس وبيت لحم، فانطلق الموكب من هناك إلى مدينة المهد في جوّ من الابتهاج ودويّ البارود وجولان الفرسان والخيالة، فتعجّب القادمون الجدد من تعابير الحفاوة هذه الموجّهة إلى الأب بلّوني، الملقّب بأبي اليتامى، وإليهم.
وبعد أيام قليلة، أثناء حفلة تكريمية، رحب أعضاء جمعية العائلة المقدسة السالسيين بخطاب حماسي جاء فيه: "تعالوا، تعالوا دون خشية، فإننا نعدُّ قدومكم إلينا سعادة حقيقية لنا. تعالوا فبيت لحم تندبكم إلينا... مواطنو يسوع يستصرخون قائلين: تعالوا لمناصرتنا وأرشدونا وكونوا لنا مجنّ الإيمان... هناك أورشليم... أورشليم التي حلّتها الهراطقة، أورشليم التي ذلّلها الصليبيون واستولى عليها المسكوب واليهود... تمدّ نحوكم يديها متضرّعة. هناك الناصرة تتوقّع عونكم... ".
زاد في الأشهر القادمة عدد السالزيان ولكن الأب بلّوني بقي رئيسًا لمشاريعه لكي يتمّ اتحاد الرهبنتين بدون زعزعة واحتفظ بهذا المنصب حتى وفاته عام 1903.
ولا شك أن الجمعيتين كانت لهما غاية واحدة هي خدمة الأولاد المعوزين من خلال التعليم المهني والزراعي.
كانت التربية في مؤسّسات الأب بلّوني، ثم في المدارس السالسية في الأراضي المقدسة جيدة، بل جيدة جدًا، كما يشهد نجاح ألوف خريجيها. مع أن النهج الثقافي المتّبع فيها كان غالبًا مستوردًا، حافظت اللغة العربية على مكانتها، فأتقنها وبرز فيها بعض أعضاء الجمعيتين. ولكن، مع مرور السنين ومع تعرّض المؤسسات الكاثوليكية في الأمبراطورية العثمانية عمومًا وفي فلسطين خاصة إلى التقلّبات والخلافات السياسية بين فرنسا وإيطاليا، فقدت هذه اللغة أهمّيتها لصالح اللغات الأوروبية واستمرّت هذه الحال إلى أيام ما بعد الحرب العالمية الثانية.
يبقى أن اندماج الرهبنتين التدريجي لم يخلُ من الصعوبات الداخلية والخارجية، ولكن حكمة الأب بلّوني وصبره تغلّبا عليها فاستطاع السالزيان أن ينتشروا من بيت لحم إلى بيت جمال ودير كريمزان 1891، ثم إلى الناصرة والقدس 1904 ويافا 1907 وحيفا 1920 فأصبحت فلسطين نقطة انطلاقهم إلى سائر دول الشرق الأوسط.
ولقد قضت الأحداث الحروب على مدارس يافا والقدس وحيفا، في حين بقيت وتطوّرت مدرستا بيت لحم والناصرة وهما الآن من أشهر المؤسّسات التربوية والمهنية في الضفة الغربية والجليل للمواطنين العرب. وأصبح دير كريمزان معهدًا لاهوتيًّا دولياً لفترة من الزمن ثم إلى القدس في أيلول 2004 بإشراف الجامعة البابوية السالزيانية في روما.
انتشارها في سائر بلدان الشرق الأوسط
1 ) مصر: أينما كانت المؤسّسات السالسية تتوطّد في فلسطين، ازدادت الطلبات الملحّة لفتح مدرسة في الإسكندرية، وبالحقيقة كانت حصيلة المفاوضات التي أجراها الأب بلّوني سنة 1895، شراء قطعة أرض واسعة من الدولة المصرية، في حي باب سدرا، في ضواحي المدينة.
وصل السالزيان في كانون الأول 1896 وفتحوا مدرسة مهنية استرعت تدريجيًّا الإعجاب لكثرة فروعها وتجهيزاتها الحديثة والتحصيل المهني العالي.
فانطلاقًا من الإسكندرية، امتدّ نشاط أبناء دون بوسكو، بعد الحرب العالمية الأولى، على طول قناة السويس، في ثلاث مدارس، في بور سعيد (1924-1963) والإسماعيلية (1925-1940) والسويس (1926-1940). ولم يأتِ دور العاصمة، القاهرة، إلا سنة 1926 بمشروع بدأ متواضعًا، ثم نما سريعًا، خاصة بعد فتح فرع مهني فيه عام 1931. تعرّض هذا المعهد ونظيره في الإسكندرية إلى تقلّبات كبرى عدة منذ نشأتهما، ولكن، بينما توارى كليًّا الحضور السالسي في مدن قناة السويس، بقيت مدرستا القاهرة والإسكندرية لأنهما كانتا في طليعة المدارس المهنية في مصر.
كانت التطوّرات السياسية التي طرأت في الخمسينات والستينات وترحيل الأجانب من البلاد قد وضعت السالزيان أمام صعوبات مختلفة وتحدّيات جديدة تتطلّب شجاعة وجرأة. فقُبل التحدّي وأُعدّت الدورات المهنية السريعة لاستقبال الشبان اللذين لم يُسعفهم الحظّ على إتمام دروسهم. وفي الوقت عينه شرع المسؤولون السالسيون يفكّرون في إنشاء معهد فني ـ صناعي عالٍ لإعداد التقنيين اللذين كانت مصر بأمسّ الحاجة إليهم لتنشيط حركة التصنيع. ففي عام 1970 توصّلت السلطات المصرية والإيطالية إلى توقيع بروتوكول ينصّ على إنشاء هذا المعهد، الساري على منهج خمس سنوات، في القاهرة وإنشاء معهدين مهنيين ـ صناعيين مع منهج ثلاث سنوات في القاهرة والإسكندرية وذلك في مدرستي السالزيان وبإدارتهم. وتمنح تلك المعاهد شهادات رسمية تعترف بها سلطات البلدين.
وأخيرًا، تمشيًا مع متطلّبات الشبيبة المصرية، سعى أبناء دون بوسكو، منذ بضع سنوات، إلى الاستيطان في صعيد مصر، حيث بدؤوا بتنظيم دورات مهنية صيفية في مدينة طهطا، في محافظة سوهاج.
2 ) تركيا: في مطلع هذا القرن كان الحضور السالسي في الشرق الأوسط يشمل أربع مؤسّسات في الأراضي المقدسة ومؤسسة واحدة في مصر. لذلك، لما تبيّن أن فرص الانتشار في بعض البلدان الأخرى ملائمة، أنشأ الرئيس العام للرهبنة، الأب روا، عام 1902، إقليمًا رهبانيًا خاصًّا بمنطقة الشرق الأدنى MOR، دعي باسم "يسوع الشاب".
وفي العام التالي، أي في 1903، جاء دور تركيا، حيث أنشئت مدرسة مهنية صغيرة في اسطنبول، تحوّلت بعد بضع سنوات إلى مدرسة ابتدائية ومتوسّطة. وبُنيت مدرسة أخرى تجارية في إزمير، لحقتها في المدينة ذاتها مدرسة ثانية أكاديمية سنة 1905. ثم، عام 1913، أُنشئت مدرسة أيضًا في أضاليا (أنطاكيا)، على ساحل البحر المتوسط.
لم يتخطّى معظم هذه المدارس العقبات الناتجة عن التغييرات السياسية والبشرية التي طرأت على تركيا بعد الحرب العالمية الأولى بانتهاء الدولة العثمانية وثورة أتاتورك. فأُقفِلت مدرسة في إزمير عام 1924 والأخرى في 1945، كما غادر السالزيان أضاليا في 1927.
بقيت مدرسة القسطنطينية، بعد أن تحوّل اسم المدينة إلى اسطنبول، وأصبحت مدرسة تركية خاصة معترفًا بها، تشمل جميع مراحل التعليم. أما المدارس التي أُقفِلت في تركيا، كما حدث في مصر، فكانت مخصّصة غالبًا لأبناء الجاليات الإيطالية الفقيرة. ولذلك زالت مع زوال الحضور الإيطالي من تلك المناطق.
3 ) العراق: لم تقبل بلاد ما بين النهرين السالزيان إلا لبضعة أشهر في الموصل عام 1909، أثناء محاولة لفتح مدرسة مهنية لم تبصر النور للتداخلات السياسية الفرنسية في إطار "حرب النفوذ" غير المعلنة بين فرنسا وإيطاليا في المشرق. ثم عاد السالزيان ليترددوا بالصيف لإقامت النشاطات الصيفية في علم 1999 في محاولة للعودة الدائمة, لكن حرب 2003 منعت ذلك.
4 ) إيران: بخلاف ما جرى في العراق، استطاع أبناء دون بوسكو أن يقيموا في إيران وأن يترسّخوا وينموا حتى عام 1980، عندما قامت الثورة الإسلامية.
بدأ نشاطهم هناك سنة 1973 بفتح رعية لاتينية للأجانب عامة وللإيطاليين خاص، تلبية لدعوة الكرسي الرسولي ونظرًا لتزايد عددهم سنة بعد سنة. وللغاية عينها، خلف السالزيان الآباء الكرمليين في إدارة رعية عابدان عام 1954. وشمل العمل الرعوي فيها مناطق إيران الجنوبية، من شطّ العرب غربًا إلى ا لخليج جنوبًا وإلى حدود باكستان شرقًا، بالإضافة إلى رعاية بحارة السفن الراسية في الموانئ الإيرانية.
إلى جانب هذه النشاطات الرسولية نشأت في طهران عام 1944 مدرسة أكاديمية إيرانية تطورت وازدهرت حتى صارت من أشهر المؤسسات التربوية في البلاد وأكبر مدرسة سالسية في الشرق الأوسط. غير أن الثورة الإيرانية وضعت حدًّا لوجودها بتأميم منشآتها وطرد جميع الرهبان العاملين فيها. ولا يبقى الآن في إيران سوى عدد ضئيل جدًّا من السالزيان يقومون برسالة رعوية محضة في رعيتين في طهران فقط، إذ أدّت حرب الخليج إلى تدمير الكنيسة والدير في عابدان.
5 ) سوريا: تلبية لرغبة القيمين على مؤسسة "جورج سالم"، برئاسة متروبوليت حلب للروم الملكيين الكاثوليك، قصد السالزيان هذه المدينة عام 1948 ليتسلموا إدارة مدرسة مهنية ازدهرت في الخمسينات والستينات قبل تأميمها في 1967. ومنذ تلك السنة توسّعت النشاطات الرعوية من خلال مركز للشبيبة يضم مئات الأعضاء من كلا الجنسين.
6 ) لبنان: لم يفكّر أبناء دون بوسكو أول الأمر في التوجه إلى لبنان لكثرة المؤسسات المسيحية عامة والمدارس خاصة الموجودة على أرضه. ولكن، لما قرّر الآباء الدومنيكان الانسحاب من إدارة المدرسة الإيطالية للصبيان القائمة في رأس بيروت عام 1952، رأوا فرصة سانحة للاستفادة من مركزية بيروت بالنسبة إلى سائر بلدان الشرق الأوسط فقدموا إلى لبنان.
نمت هذه المدرسة سريعًا وانقسمت إلى أقسام ثلاثة: القسم الفرنسي اللبناني والقسم الإيطالي والقسم الإنكليزي الأمريكي الذي تميّز بتعدُّد جنسيات تلاميذه وتعدُّد الأديان والمذاهب التي ينتمون إليها.
كانت هذه المدرسة في أوج ازدهارها، حينما رفض صاحب الملك تمديد عقد الإيجار بعد سنة 1982 وأخفقت المحاولات الرامية إلى تعديل قراره. بل تأزّم الوضع مع اندلاع الحرب اللبنانية فانسحب السالزيان من بيروت عام 1977، بعد أن قدّموا للقضية اللبنانية شهيدًا، هو الأب ألدو باولوني وقد سقط أثناء قصف عنيف تعرّضت له المدرسة في مساء 19 آب 1976.
وانطلاقًا من بيروت انتشر الحضور السالسي إلى الريف، في قرية الحصون، ببلاد جبيل الوسطى، عام 1957، إثر تقديم الخوري يوسف الدكاش قطعة أرض لبناء مدرسة فتحت أبوابها لأبناء المنطقة في 1958. وخصص جناح في البناية عينها كمقر إقليمي للمبتدئين والإكليريكيين السالسيين على مدى عشر سنوات تقريبًا. وعندما تدهورت الأوضاع عامة أقفلت المدرسة أيضًا، مما سهّل قدوم عدد غفير من مهجّري الشمال سنة 1978، خلفتهم القوات اللبنانية في 1981 ومهجّروا الجبل منذ 1983.
0 التعليقات:
إرسال تعليق